جرير الصحراء:محمد ولد أبن الشقروى

أربعاء, 07/08/2020 - 10:14

تعتبر منطقة الڭبله الحاضنة الكبرى لثقافة الأدب في الصحراء بالنظر إلى الكم الهائل من الشعراء الذين ظهروا فيها بالفصيح والعامي، ولم يكن الكم العامل الوحيد الذي حازت به ذلك فقد بلغ أهلها مبالغ عظيمة من الإجادة والإبداع، وأظهروا عبقرية ملفتة للنظر في النظم وجودة التعبير واقتناص الفكر وحسن التصوير، وكانت قبيلة إدابلحسن من القبائل المنافسة على الصدارة في هذا الميدان، ولاسيما في شق الشعر الفصيح، ومن أعلام شعراء إدابلحسن الذين سُلم لهم بالتقدم والتميز نتناول الليلة شخصية شاعر دوى صيته في المنطقة ذات زمن، وهابه الشعراء بلهَ غيرهم، حتى قيل فيه:
أشبه حد إلا ڭد ... عن صيد إداشغرَ
يتمزرَ، وانَ بعد ... اندوّر نتمزرَ

هو محمد بن عبد الله(أبنُ) بن محمد محمود(احميدًا) بن مولود بن المختار بن أحمد بن حبيب الله (حبوب) بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن يعقوب الجد الجامع لمجموعة إداشغرَ من أولاد اشريف ببزولْ القلقمية نسبا والحسنية وطنا، وأمه ميمونه منت اعبيد الل منهم كذلك.

ولد سنة 1897م في منطقة اعڭل إدابلحسن، وقد ظل الإبن الوحيد لأبويه لمدة ثمان سنوات مما جعلهما يدللانه ويوليانه كامل اهتمامهما لتعليمه وتربيته، حفظ القرآن في بيت أهله وهو بعدُ طفل صغير، ثم بدأ ارتياد محظرة أهل فتى الشقرويين لمجاروتهم لذويه، فدرس مبادئ الفقه واللغة، ومن عندهم مضى به أبوه فشرطه على الشيخ أحمدُّ بن أحمذيّ اليوسفي الحسني العلامة الشهير، فعمق على يديه دراساته اللغوية، ومن عنده التحق بمحظرة العلامة محمدُّ حامد بن آلا الحسني، فدرس الشعر الجاهلي وديوان ذي الرمة ومثلث ابن مالك، ثم عاد إلى مدرسة آل فتى فدرس على الشيخ أحمدُّ بن فتى الفقه والبلاغة، وأراد التصوف على يد أحمد بن سيد آمين الشقروي الحسني إلى أن وقعت بينهما الجفوة بسبب تأثر ول أبنُ بسلفية أهل بوتلميت على ما سيأتي بيانه عند الحديث عن ما وقع بينه والمصباح التاڭنيتي، وقد أولع بالأدب بشقيه الفصيح والشعبي منذ صباه وساعده على تنمية موهبته محيطه الذي كان مدرسة في الأدب، قلما تجد خِباء إلا وفيه شيخ يحسن قرض الشعر أو "لغنَ" او هما معا أو على الأقل يحسن تمييز جيده من متكلفه، تلك بيئة إدابلحسن الذين اشتُهروا بالفصاحة الفطرية وسليقة العروض..

وكان والده أبنُ ول احميدا شاعرا بالفصحى والحسانية، وكان مجيدا بالحسانية خصوصا، يكفيك أن العملاق لرباس ول اللي قال فيه وفي أخيه حبيب الله:
لزم الموزون أهلُ يرخوه ... امنين إهيدن لمهيدن
لابنُ ول احميدًا والخوه ... حبيب الل ول احميدًا

فلم يحتج ول ابنُ إلى البحث عن أستاذ أو التجول تنقيبا عن من يقيّم له مقوله، بل كان أبوه موجهه الناصحَ الأمين..

وسرعان ما قرض ول أبنُ الشعر بنوعيه وأجاد فيه وظهر، واشتهر بسرعة البديهة فيه، يروى أنه ذات مرة كان في مجلس شاي في بوتلميت، فقال السيد الأديب يوسف بن بابَ بن الشيخ سيديّ: حق لهذا الشاي أن يوصف، فقال ول ابنُ فورا: مدّ الفاء تحصل على شطر وأنا أكمل لك، وطفق يقول:
حق لهذا الشاي أن يوصفا ... في مجلس صاف ويوم صفا
في مجلس ما شابه شائب ... خال من ارباب الخنا والجفا
ما ضم إلا سيدا ماجدا ... أو مزهرا أو شادنا أهيفا
ضم الأديب الناجيَ المرتضى ... والمرتضى ابن المرتضى يوسفا
وفيه أخناثه الفتاة التي ... فيها لعلات العليل شفا
شمسية الوجه إذا قابلت ... شمس الضحى أيقنت أن تكسفا
والشاي شاي منتقى مصطفى ... من خير شاي منتقى مصطفى
تبدو على كاساته هالة ... تخال بدر التم فيها اختفى
ترشافها شاف لنفس الفتى ... إن شفاء النفس أن ترشفا

ويروى أنه ذات مرة كان في مجلس يعقوب بن الراجل الإنتشائي الأبييري، وكان مكبا ينسخ شيئا، وكان في المجلس العالم الشاعر المؤرخ الشهير المختار بن حامدٌ الديماني، فقال المختار في مدح يعقوب:
لو ان المجد يُسأل من أبوه ... ونسبته لقال أنا انتشائي
أبي وأبو أبي وأبو أبيه ... جميعهمُ انتشائي الانتشاء
فقال أحد الحضور أن هذا الإلتزام قبل الروي نفدت كلماته، فرفع ول ابنُ رأسه وقال مفندا:
وفرّق ما جمعتَ ولو كثيرا ... على الجيران من إبل وشاء
فإن أباك مشتهر المزايا ... يبادر بالعِشاء وبالعَشاء
 
تغرب ول أبنُ إلى السنغال فمارس التجارة فيها، والتحق بالعصر الأدبي المعروف بـ"المهاجريَّ" الذي ضمَّ معه الأدباء: الشيخ ول مكيٍ الإديجبي، ومحمد ول محمد اليدالي، والعالم ول البشير، واسماعيل ول بابَ ول الشيخ سيديّ، والخليل ول محمد ول بابَ ول الشيخ سيديّ، وبلال ول اميجن الأبييريون، والمختار ول حامدٌ الديماني، ومحمدن ول سيد ابراهيم السباعي، وقد قال في بعضهم ذات أنس:
هاج ادكاري شادن بدكار ... يختال بالآصال والإبكار
يفتر عن كالأقحوان مؤشر ... شيطت منابته بلون القار
وإذا يحاول أن ينوء يصده ... كِفل كمركوم الكثيب الهاري
كم ليلة بالدار قد غازلته ... ورقيبه بالدار ليس بدار
بينا يساقطعنا الحديثَ مرصعا ... بفرائد الأخبار والأشعار
جاءت مغنية الندي فرددت ... بتوافق النغمات والمزمار:
نصر المهيمن جملة الأنصار ... وأعزهم في البدو والأمصار
عصر تقلد رفعة وفخامة ... ومآثرا أنفت عن الأعصار
جبلوا على كرم النفوس وعفة ... ورزانة وسكينة ووقار
فإذا مررتَ بواحد من جمعهم ... فلقد مررتَ بقارئ وبقار
فبليغهم وإمامهم وخليلهم ... بين الجموع كأوجه الأقمار
والسيف سيف في المكارم صارم ... والشيخ شيخ النفع والإضرار
وذبيحهم وبلالهم وجميعهم ... ما بين بدر كامل ودراري
فهمُ عتادي للدواهي إن دهت ... وأحبتي في الجهر والإسرار

وكان في دكار الرجل الفاضل الجواد الحاجُّ اكويمل ول توكل وهو من موالي تندغه، وكان جزارا وذا ثروة كبيرة، وكان الموريتانيون يتوافدون إلى داره فيشبعهم إكراما وعطفا، وذات مجلس أدبي في داره أخذ الشعراء يتبارون في مدحه، وكان ول ابنُ حاضرا فأراد أن يبدي تفوقه فأنشأ قصيدته التي أطرق بعدها الأدباء لا تسمع لهم ركزا، وهي:
أهاجت لك الأشجانَ لمحة بارق ... وزورة طيف من أمامة طارق
وذكرة أيام الهوى عند ذي الهوى ... لياليَ لا أخشى طروق الطوارق
لياليَ طاب الوصل فيها لواصل ... وأينع دوح العشق فيها لعاشق
وأعطيتُ فيها محض ودي أمامة ... ولم أك ذا وجهين مثل المنافق
أمامة ما حملتني من صبابة ... -وإن خلته قد لاق- ليس بلائق
أبيت سمير النجم والركب هجد ... تسح على نحري دماء الحمالق
وإن تحفظي العهد الذي كان بيننا ... -وقد يحفظ الموموق عهدا لوامق-
فعهدك محفوظ ولقياك منية ... ومرآك للعينين أحسن رائق
وثغرك عذب وابتسامك بارق ... "فهل لي ثوى بين العُذيب وبارق"
وإن خنتِ عهدي دون ذنب جنيتُه ... وقطّعتِ مني محكمات الوثائق
نهضتُ لدار الكامل السيد الذي ... أياديه تنهل انهلال الودائق
أكامل أنت المستلذ الخلائق ... وأنت الفتى المرضي بين الخلائق
وأنت الذي جُربتَ في كل مشهد ... فأُلفيتَ مفتاحا لقُفل المضائق
وأنت الذي أولاك مولاك نعمة ... ففرقتها في الناس مثل المفارق
توالي لمن والاك أبهى بشاشة ... وتولي لمن ولاك أسنى العلائق
وتبسط للزوار كل أريكة ... منمقة محفوفة بالنمارق
وتسقيهمُ منك الحديث معتّقا ... وتمنح صفو الود غير مماذق
فلا تحسبّن الكعك كل مدوّر ... ولا كل طِرف لاحقا شأو "لاحق"
أتحسب لي في الشعر شِبها؟! ألم تكن ... نظرتَ إلى مرويه في المهارق
وكيف أجارى فيه وهو سجيتي ... وآخذه ما بين جيبي وعاتقي
ومعدِنه فينا وعرصة داره ... مجر عوالينا ومجرى السوابق
فشعريَ في أقصى المغارب شائع ... وجاوز منه الصيت أقصى المشارق
ومن كان مسطاع السباق فذا المدى ... وها أنا ذا فليأتني بمُسابق!

وكان في السنغال من التجار اللبنانيين الكثير، وكانوا يحتكرون التجارة بالجملة، بينما كان الموريتانيون يتاجرون بالسقط، وكانوا يلجأون أحيانا إلى الإستدانة منهم، وكان بين اللبنانيين تاجر اسمه "نجير" بخيل كزوجته التي يتخذها مستشارة في كل صغيرة وكبيرة، فقال فيه ول ابنُ:
لحا الله التجارة كلفتنا ... بإدمان المسير إلى "نجير"
وإظهار الوداد له على ما ... أجن من الخبائث في الضمير
نوافيه فيلقانا بوجه ... عبوس مشمئز قمطرير
عليه من المذلة سابغات ... تجرر بالمقام وبالمسير
فيؤذينا بمنظره ابتداء ... ويؤذينا بمنطقه المرير
ومهما فاه فاح النتن حتى ... كأنا عند حاشية السعير
وإن قلنا حوائجنا تصدى ... إلى سعلاء دائمة الهرير
تجللت المخازي والمساوي ... وجنبت التردي بالحرير
فقبح وجهها من مستشار ... وقبح وجهه من مستشير
يحاول أن تشير له برأي ... يجنب كل مكرمة وخير
فتحمله على رأي حقير ... وكم حمل النظير من النظير
فبعد أن شاعت هذه القطعة صار اللبنانيون يفكرون ألف مرة قبل أن يمتنعوا للموريتانيين أو يعاملوهم بسوء، تماما كما وجهت اهتمام الأدباء اللبنانيين إلى الصحراء فألف يوسف محمد مقلد كتاب شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون.

ويقول في إحدى كريمات التاجر في اللوڭه أحمد يعقوب بن بندك التاشدبيتي:
يا بنتَ أحمد يعقوب لعبتِ بنا ... وهِجتِ للمرعوين الهم والحَزَنا
وكم فتنتِ فتى عن سحر فاتنة ... ما إن أتاكِ فتى إلا بكِ افتتنا
وكم سلبتِ لبيبا لُبه ولهًا ... حتى غدا كلِفا في لوعة وعَنا
ما زِلتُ أسمع هذا عنك مُذ زمن ... ولا أباليَ حتى قد فتنت أنا

وذات مرة أشاع بعض خصومه أنه تزوج على زوجته عمرانه منت محنض ول البان في السنغال، فبعث إليها برسالة تضمنت هذه الأبيات:
وُرق الحمائم مُذ غنت بأغصان ... بان تعلقتُ وجدا بابنة البان
فإن تبينتُ بانا مائسا خضِلا ... غضا تذكرنيها ميسة البان
البان هدم صبري ميسه وبنى ... شجوي فلله هذا الهادم الباني
قلبي لعمرانَ لا أصبو لغانية ... إلا إذا كان لي في الحال قَلبان
قُلبان في معصميها هيجا شجني ... لا غرو إن هيج الأشجان قُلبان

ومن أجود شعر ول ابنُ يمدح الأمير أحمد للديد:
صبغتِ بدمع عاشقِك الخدودا ... وعنه أطلتِ في الصِّلة الصدودا
لعبتِ بلُبه وطويتِ عنه ... بساطَ الوصل واختنتِ العهودا
صليه أو انصفيه فإن ظلما ... وغدرا صرمُك الدنف العميدا
لعلك تجهلين بأن فينا ... إماما عادلا حكما حميدا
فتى شرب العدالة في صباه ... فعن نهج العدالة لن يحيدا
هو ابن الديد سيد كل ناد ... وأعلى كل ذي رُتب شهودا
فعينك إن رأته رأت أميرا ... مهيبا هو أجدر أن يسودا
أعار الموتَ بعض الفتك منه ... وألبس بعض هيبته الأسودا!!!!
رأته العُرْب أحسنها طِباعا ... وأكرمها وأكبرها جُدودا
وأبطشها وأقصدها رميّا ... وأعدلها وأنجزها وعودا
وأقربها لدى الهيجاء بأسا ... وأنفعها وأكثرها حسودا
وأعذبها لمن والاه طعما ... وأصلبها لمن عاداه عودا
وأعلاها وأسناها بُروقا ... وأزعجها وأهولها رعودا
وأيمنها وآمنها مضافا ... وأمرعها وأرواها نجودا
وأبذلها وأرجحها وقارا ... وأجراها على العافين جودا
وقد علمت شجاعتَه الأعادي ... فسموه لروعته المُبيدا
إذا الشجعان صرّعهم كراهم ... وباتوا فوق أرحلهم هجودا
وطوّتهم يُديُّ طوى طويل ... وأمسى البرد جللهم بُرودا
وشفّهم الصدى حتى توانوا ... وصدوا عن عزائمهم صدودا
تراه أغر مبتسما يزجي ... مصيب الرأي والنظرَ السديدا
يحذرهم ويغريهم ويفري ... بهم تيها مضللة وبيدا
ويوردهم وقد طارت شعاعا ... قلوبهمُ وقد يئسوا الورودا
قُليبا ليس يعلمه دليل ... لياليَ من محاق الشهر سودا
فيصبح وهو ينظر في الأعادي ... كفيلا بالوسيقة أن يعودا
فيرميهم ويُعرب عن سُماه ... فيهزمهم ويسلبهم وحيدا
وإن له مناقب ليس يحصي ... لها رق ولا قلم عديدا
وقد جذبت إليه يدُ المعالي ... طريفَ المجد والمجدَ التليدا
رعاه الله من ملك همام ... وأسس ركن دولته المشيدا
وأيده وعمره مطاعا ... وأبقاه المسود لا المسيدا

ويقول في شيخه أحمد بن سيد آمين الشقروي الحسني:
أعاذلتيّ ويبكما دعاني ... فإني لستُ مثل بني فُلانِ
حلبتُ الدهر شطريه فآنا ... أمر علي واحلولى بآن
ومارستُ الزمان فكان هينا ... علي لقا ملمات الزمان
فلم أكُ للخطوب إذا ادلهمت ... كئيب البال عضاض البَنان
ولم أفرح لسراء اعترتني ... فتيلك شيمة اللحِز الجبان
وكم من مخبر عني بسوء ... -وليس له بممتحن- لحاني
وأقلع بامتحاني عنه إني ... رضا من كان يلحاني: امتحاني
وأولاني إلهي أن هداني ... للايمان المثبت للجَنان
وأولاني التفصيّ من يُدي ... من التقليد كنتُ بهن عان
وإن لوينتُ لنت وكنت صعبا ... وإن خوشنتُ لستُ بهيّبان
تراني بالبراهين اعتصامي ... إذا ما طارق الشُبه اعتراني
ولي شيخ يذب الشر عني ... فمما كنتُ مختشيا حماني
بيمن تعلق مني إليه ... تألق برق إيماني اليماني
وبيني والمخوفَ جعلتُ حِرزا ... له في كل ميدان يداني
وما أمت يد الحدثان إلا ... ثنى عني يد الحدثان ثان
ولا عجب فشيخ القطر شيخي ... مدى الأزمان في العرفان فان

ويقول في الشيخ محمد المصطفى بن الشيخ أحمدُّ بمبَ الوولفي، وهو خليفة والده في الطريقة في مدينة طوبى السنغالية حيث ضريح الوالد:
أمِنتُ من الخطوب: أتيتُ طوبى ... ويامنُ من ألم بها الخطوبا
فطوبى للذي دفنوه فيها ... وللشيخ الخليفة منه طوبى
فلا غدرا أخاف ولا أذاة ... من الدهر الخؤون ولا قُطوبا
أتيتُ مدينة لله تُدني ... ويصفي يُمن زورتِها القلوبا
وتجتذب النفوسَ إلى المعالي ... وتجتنب الرذائلَ والعيوبا
وتُبدَل عندها السوءي  بحُسنى ... ويخلف عندها الفرجُ الكروبا
ويعلم ذو الجهالة إن أتاها ... ويصبح كل مكتئب طروبا
ويصبح كل ممتهَن مَهيبا ... ويصبح كل مغترب قريبا
ويصبح "مادر" معنى كـ"مُعن" ... ويصبح "باقل" قُسا خطيبا
بها الشيخ الخديم ثوى فدبت ... حُميا سره فيها دبيبا
وأفرغ في جوانبها ذَنوبا ... من البركات تختطف الذُنوبا
وأسكنها خليفتَه فأمسى ... لأدواء القلوب بها طبيبا
وأورثه مآثره اللواتي ... بها ملَكَ القبائل والشعوبا
وأوصاه بها وكساه بُردا ... أنيقا من جلالته قشيبا
فقام بإرثه خَلقا وخُلقا ... وكان لمفصل الحق المصيبا
أيا طوبى أتيتك مستجيرا ... أسير مآثما قلقا حَريبا
أؤمل ما أؤمل منك إني ... جدير بالمؤمل أن أؤوبا
وأولى بغيتي إصلاح قلبي ... فكم أصلحتِ يا طوبى قلوبا
وألفى جار جارك في التلاقي ... وألفى للحبيب غدا حبيبا
صلاة الله يتبعها سلام ... عليه صوبها سحا عجيبا

وكان ول ابنُ هجاء قلما غضب من أحد إلا هجاه، وحتى أنه عرّض بأبيه ذات غضب عندما جاء من غيبة في السنغال فوجد أباه وزوجه -التي ليست أمه- رحّلوا زوجته هو إلى أهلها من دون ذنب، فغضب وأنشأ يقول:
ألم يان أن تجفو الصبا وتحلّما ... وتأنف عن صهبا لمى ربة اللمى
وتسترجع النفس اللجوج عن الهوى ... وتقصر عن ما كنتَ فيه وتندما
وتمسك دمع العين عن جريانه ... على النحر إن حبل الخليط تصرما
وتعلم أن الدهر ذلك دأبه: ... يفرق مجموعا وينقض مبرَما
إلى أن يقول:
وإني ابن من يرجو إذا غبتُ أوبتي ... سريعا ويرجو أن أفوز وأغنما
ويكرم من خلفتُ في جنباته ... -وإن لم يكن أهلا لذاك- تكرما
فيصبح لا يخشى سبابا ولا قِلى ... ويجعله في كل أمر مقدّما
وإن جئتُه أبدى طلاقة وجهه ... وخالط في رد السلام التبسما
ولستُ ابنَ من مهما دهتني ملمة ... تطرب واستحلى الهنا وترنما
ولستُ ابن من يرجو ويأمل حنتي ... -إذا غبتُ أو إن لم أغب- أن تأيما
فيطردها طرد المدثر أجربا ... تيمم مثوى بركه فتجشما
ويمنعها مالي ويمنع ماله ... ألا هيما من مثل ذاك وهيما
ويشتمها بعدي، ألم يكُ عالما ... بأني إذا شوتمتُ أُلفيتُ أشتما
وأني حام للذمار وديدني ... -ويعلمه- أني أذب عن الحمى
حميت ذمار الشقرويين كلهم ... فأخرستُ من بالسب رام التكلما
صلاة كعرف الروض من خالق الورى ... على نخبة الأكوان بدء ومختما

وقد عيره محمد الحسن بن حبيب الله الطالبي التاڭنيتي بالتعريض بأبيه في المهاجاة التي وقعت بينهما، وعدد بعض مشاهير من طالهم هجاء ول ابنُ:
أُعزي النفس أني إن هجاني ... بمنقصة يشيب لها الغلام
هجا قبلي أباه وكان أولى ... وأجدر أن يكون له احترام
وألبس عمه جلباب ذم ... علته منه منقصة وذام
وذم الصالحين فهم جميعا ... له خُصما إذا وقع الخِصام
ويهجو الصالحين وهم سجود ... لرب العرش أوجههم وِسام
ونجل فتى هجاه وكان شيخا ... له في العلم لو ترعى الذِمام
ونجل الحارث القاضي هجاه ... وبالدين الحنيف له اعتصام
وآلُ الماجد الخلفِ الطهارى ... -وقد كانوا على الدين استقاموا-
رمى في الدين ناديَهم جميعا ... وما رام الذي في الدين راموا
وذم "ابّاهَ" عالمَ كل فن ... كريمَ النفس إن ذُكر الكِرام
وذم الشيخ عبد الله من عن ... مراتبته تقاصرت الأنام
وذم الشيخ أحمد وهو قطب ... من ارباب الندى ملك هُمام
جواد يقتدي بعلاه جم ... من العلماء وهو لهم إمام

وكما في شعره الفصيح فقد انتهج ول ابنُ في شعره الحساني منهجا طاغيا متجاسرا، فهجى وساجل وتغزل بالمتزوجات وبالمصونات، ومن أشهر من تغزل بهن "يحييهَ منت حرمه" من اولاد اعمر أڭداش، وكانت متزوجه، وهي التي يقول فيها:
يالعڭل اصبر ذ امن آشقاب ... لمريتك يحييهَ
واعرف عنك ذ الخظت غابّْ ... عنهَ مانك لاڭيهَ
ڭبلُ راجلهَ فات غابْ ... وخظت الّ خاظ اتجيهَ
واليوم امنين الله راد ... امجيه أعطِ لنصاف زاد
افعزتهَ لعدت ڭاد ... لنصاف أخير افجيهَ
ماه انكم ڭاع ألا اڭداد: ... انت حدك تبغيهَ
واصبيهَ ما تنشاف صاد ... اعل جيهَ خاطيهَ
وهو يويلُ فات عاد ... راجلهَ وابڭَ بيهَ
يغير اصبر حنيه تم ... هو مَ لاهْ إتم فم
امنين إغيب افيم هم ... لا تبخل ش فامجيهَ
وذيك اجّيهَ هي اسڭم ... والا ڭوم امّاسيهَ
تم اعليهَ لا تنظلم ... فيهَ لا تظلم فيهَ

وهي التي يقول فيها:
آنَ يحييهَ ڭط ريت ... ازمان الخظت انجيهَ
وامنين انجيهَ ماتليت ... نعرف جيهه من جيهَ

ويقول في إحدى بنات أهل خطارِ ول اغنانَ من اولاد خاجيل ثم امن اولاد أبييري:
تارك لغنَ للغيد كنت ... غير ارجعت اللغن آنَ
بيّ غنه فاكلام منت ... خطارِ ول أغنانَ

ويروي محمدن ول سيد ابراهيم أنه قدم معه ذات مرة على حانوت لموريتاني في اندر فإذا بزوجة صاحب الحانوت ملأى فاتنه، فأسر له ول ابنُ بحالها وأنها اجتذبته، لكن ول سيد ابراهيم استنكر عليه أن يتغزل بها وهي متزوجة وقد أكرمهما زوجها، إلا أن ول ابنُ أبى إلا أن يقول عليها، وكان اسمها "هندُ"، فقال فيها ڭافين من أشهر ما اشتهر، أحدهما:
محمد لابنُ بعد ... ملسَ عندُ هندُ
ولاهُ جاحد عن حد ... عنهَ ملسَ عندُ
والثاني:
يحد اتسول بعد ... عن حد أملس زندُ
لاهِ ننعتلك حد ... أملس زندُ: هندُ

وهو صاحب الڭاف السيار:
نعرف ليله عند آجوير ... آنَ والمولع بيهَ
ذيك الليله لعاد خير ... فالدنيه ريتُ فيهَ

ومن أدبه الحساني أيام دراسته في المحظره في زميلين له:
يحيَ واباتَ مجتمعين ... اعلَ البشنه لا ينفشنَ
وويل البشنه منهم لثنين ... والله الّ ويل البشنه

وڭاطع ول ابنُ الكثيرين، وهو الذي يقول في التحدي:
كان ضاق الراوِ ننباو ... ذاك باش الروص ارفدنَ
ولا اعلينَ كنّ لفراو ... ولا انزوزُ زاد ابلدنَ
كان ڭام امغنِّ رداح ... مول لوح ولاهِ يلتاح
داح شورِ باغنَ تزداح ... كنت ڭبلُ تارك لغنَ
ما إطول كلب افنُباح ... كان رام الليث افركنَ
وكان جانِ لغنَ مزروڭ ... طوڭ منُّ يعلَ عن طوڭ
ما انّتڭ كون ابلعروڭ ... ذاك باش انعدّل لغنَ
ولا انڭاطع باغنَ مصروڭ ... ولا إزوز اعليّ معنَ

ولعل من أشهر من "ڭاطعهم" أبناء الشيخ حبيب الله الطالبيين التاڭنيتيين: الشيخ محمد الحسن والمصباح، وقد أقذع معهما، ولنا عودة لما جرى بينهم، وساجل احميْد الجاله اليعقوبي، وممن ساجلهم أيضا الأديب المُجيد محمد فال ول يسلم الأدهسي الأبييري، وكانت بداية ما جرى بينهما أن ول ابنُ كان أقرب للدمامة، وفي إحدى المرات كانت هناك امرأة يريد ول ابنُ إتيانها، وعلم محمد فال بذلك، وكان يعلم أنه متى أتاها فهي تفضله عن ول ابنُ، لكنه لم يرد أن يقطع الطريق على صديقه فاكتفى بقول هذه الطلعه:
أمنادم جاك اتڭد اتعود ... أشبهلُ من يطرح لعمود
غير إدور إعود افلغيود ... اغبن محمد ول ابنُ
والَ ما غبنُ زاد اعود ... محمد ول ابنُ غبنُ
فلما بلغت ول ابنُ قال:
هاذِ الطلعه شمت وزلّ ... من محمد فال افملّ
يغير اصّ بل العلّ ... عودان امغنِّ فيه الفال
لڭام وخلاهَ خلّ ... محمد فال ابذيك الحال
والَ جاوبها زاد ألّ ... حدُّ جاوب محمد فال
فقال محمد فال:
اعليّ رجل الشمت ابعيد ... يعرفّ لڭريب ولبعيد
والشكر ألّ ما فيه انزيد ... والفال الّ محمد ڭال
عن راصُ ما ذ وقت اجبيد ... أخبارُ، والراوِ مزال
خالڭ والطلعه محمد ... تارك فيهَ -ڭال افذ الڭال-
محمد فال وهو بعد ... اعڭب جاوب محمد فال!
فقال ول ابنُ:
هاذِ الطلعه زينه حتّ ... وانتَ فيهَ ڭلت الينڭال
يغير انتَ مزلت انتَ ... والحال ألا مزال الحال
ويبدو أنهما وصلا مراحل متقدمة من التنابز، ولم يصلنا تفصيل ذلك، ولم أجد منه سوى طلعه لمحمد فال أورد فيها ڭاف لأبنُ والد محمد قاله فيه زمن خلافهما، وواضح أنها جواب لاطلع أقذع فيها ول ابنُ عليه وعلى عشيره:
ول ابنُ عدل من ذهنُ ... شمن الشمت الزين وتقنُ
عمم فيه الناس وخزنُ ... عن ذاك البيهِ عانيهِ
واراهُ صدّق ڭول ابنُ ... رحمة اللهِ عليهِ:
"محمد ما ريتُ لاهِ ... كون افما يضرُّ بيهِ
محمد عدو اللهِ ... ونبيهِ وأبيهِ"

ووقع اڭطاع بينه والعميد ول سيد ابراهيم السباعي، وسببه أن ول ابنُ قال في بعض أدبه ما يفهم منه تشكيكه في شرف أولاد بسبع، فقال ول سيد ابراهيم:
محمد لابنُ ول ... احميدن متعدل
مثلُ فالڭبله ڭل ... ياسر لعاد اثنين
واطفل زاد أسطفل ... من ذُ كامل لخرين
وفالرفعه دڭ أوتاد ... الستره والتمجاد
واشريف املّ عاد ... من شرفَ مصنوعين
ابليدين وتِلاد، ... والّ لُ عاد ازمين
حل العين افلجواد ... لشراف المعلومين
وفالشعر املّ زاد ... وافلغنَ حل العين
فأجاب ول ابنُ:
متعدل محمدن ول ... سيد ابراهيم ابلا مَثَل
معنَ متعدل ذيك: اطفل ... معنَ ذيك اطفل عنُّ عين
معنَ عين: انُّ يعرف كل ... شِ زين ولا يعرف ش شين
وبوه اشريف ولا فيهَ ظن ... وامُّ: هومَ شرفه لثنين
ماهم من ذريت الحسن ... ولاهم من ذريت الحُسين
فقال ول سيد ابراهيم:
محمد ول ابنُ سييد ... افعصرُ ينڭص كيف ازيد
ش قلُّ يرعاه امن ابعيد ... وامعلم للخلطه لخرين
عندُ زر أكسَ من لحديد ... وعندُ زر املّ ليين
ولا عنك واحمد للديد ... افلعدُ تو احمار العين
فقال ول ابنُ:
محمدن خالط ش فيه ... ماهُ خالط فلّ خاطيه:
أديب اكريم اشريف اشريه ... ماهر حڭ افشغلت ليدين
شغله كيفت شغلُ بيديه ... ما شافوه ڭط العينين
ووزان: الوزن امن اخبر فيه ... اليوم الناس الوزانين
وامنادم شافُ بعد أدهم ... وامشكرد راصُ لا يتهم
عنُّ بعد امعلم من فم ... ماه وح، اشريف امحقين
واستشريفُ ماهْ اعل يم ... استشريفت لادميين
ألا شرف جاه امسڭم ... أعل فلاح.. اعل اتجرفين..
ماهْ انُّ شاريه ابنسب ... ولاهُ عنُّ شاريه ابدين
ألا شرف باط امسبسب ... من كرامات الصالحين..

وقال في محمدن ول سيد ابراهيم كذلك:
الّ شافك من هوك جاي ... ماشِ تربط سروالك
يعرف عنك بعد آنداي ... شرفه ما يولالك!

وكان رجل علمه "ول احمادِ" مصابا بعلة في إحدى عينيه ويغمضها أغلب الوقت، وكان من أهل الهزل والتنكيت، وبلغ ول ابنُ أنه نكت به ذات مرة فقال:
ول احمادِ لعبُ مطبوب ... وامذرح بيه الثقلين
أثرُ ما لحڭُ عاد اتوب ... منُّ للّ و"احل العين"؟!

وكان ول ابنُ معجبا بهول امحمد (لعور) ول انڭذي كثير الحضور له، وهو الذي يقول له في "دزيت امبر":
شاعر فالهول امعاك اتلَ ... إعود افزر وعدت افزر
ذاك الزر امن الهول اخلَ ... وذاك الزر امن الهول اعمر
ويقول له:
هول امحمد لا ڭصر زين ... والا طوّل زين إنهوَل
معناها عنُّ زين امنين ... إڭصر وامنين إطوَل

توفي ول ابنُ بعد صراع مع مرض ألم به، مساء يوم 20 شعبان 1362، 21 أغسطس 1943 في مدينة دڭانه على الجانب السنغالي من النهر، ودفن في الناحية الشمالية الغربية من المدينة، رحمه الله وعفا عنه..

من صفحة: رائد الثقافة الصحراوية 

القسم: 

وكالة المنارة الإخبارية

على مدار الساعة