شهادة عيان عن العالم والأديب أحمد ولد أحمذيه اليوسفي الحسني/يكتبها الدكتور محمد ولد احظانا

اثنين, 07/08/2019 - 12:01

هذه الشهادة أخذتها عن العالم والراوية الحافظ سيدي محمد ولد محمد الأمين ولد أحظانا، في بولنوار، وتتعلق بالعالم الجليل، والقدوة الورع، والأديب المجيد، أحمد ولد الشيخ محمد ولد أحمذيه، وهو شيخه، حول ملابسات تأليفه لمراقي الأواه في تفسير كتاب الله، المشهور لدى العامة والخاصة. وهو نظم في غاية السلاسة، وجودة السبك، وحسن الفهم، والأخذ عن أشهر التفاسير مثل الطبري وغيره من ثقاة المفسرين.

سيدي محمد ولد احظانا يقصر اسمه شهرة على سيدي، وهو توأم حقيقي للعالم الحافظ المربي، معلمي الأول محمد عبد الله ولد احظانا. قل من يميز بين التوأمين من الناس لشدة تشابههما. قيل إن والدتهما مريم بنت تفا كانت لا تميز بينهما في طفولتهما ولذلك حلقت شعر كل واحد منهما بطريقة تختلف عن توأمه. وقد تميزا بسرعة الحفظ فهما يحفظان النصوص الطويلة من سماع واحد. كما عهدا بجودة الفهم
وقد تعلما وعلما بكفاءة معارف عصرهما المتداولة.
ومن المهم أن يعرف ان الراوي من الحفاظ، حتى تكون الثقة فيه كاملة من طرف من لايعرفه.
أخبرني سيدي وهو وتوأمه محمد عبد الله رحمهما الله من مواليد 1924م.، أنه كان يدرس المتون النحوية على أحمد ولد أحمذيه سنة 1936م، وكان حينها في الثانية عشرة من عمره، بمكان يدعى الجودية، شمال شرقي بئر بولنوار الذي حفر سنة 1930م.
وذات يوم طلب منه ان ياتيه بحمارتين لأسرة اهل اميحا وكانت ام الأسرة هي مريم بنت أحمد ولد أحمذيه، وحملوا حقيبة الكتب على إحدى الاتانين وساروا في اتجاه بوتلميت صباحا وكان يبعد حوالي 26 كلمترا إلى الشمال الشرقي.
أدركتهما القيلولة في واد يدعى وادي الحمار، ونزلا تحت أيكة ظليلة،
وبدا الطالب في إعداد غداء خفيف، وكان الشيخ يحدث تلميذه ليسري عنه في الطريق أحيانا ويدرسه أحيانا.
سأل الشيخ وهو يدني إليه حقيبة الكتب:
يا ابن استاذي، هل تحفظ أبياتا نادرة من شعر العرب، فوالدك حافظ لنوادر أشعار العرب) أستفيدهما اليوم "نگلع بيهم الغب"؟ فحكى له بيتين هما:
فما الحسب الموروث لادر دره
بمحتسب إلا بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر ولو كانشعبة
من المثمرات اعتده الناس للحطب.
فاخذ الشيخ في النحيب، وهو يقول ما أحسبه إلا يعنيني. ما احسبه إلا يعنيني..
وأخبرني سيدي أنه جزع جزعا شديدا من بكاء شيخه.
أثنا هذا السفر حدثني الشيخ عن حكايته مع الشيخ محمد ولد حبيب الرحمن التندغي.
لقد حلم أحمد ولد احمذيه بأن آية (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال..) ليست ضمن مصحف انتهى من نسخه. فاستيقظ من نومه واوقد سراجا لديه، فإذا الآية ضمن المصحف. وفي الصباح خرج ليستفسر ولد حبيب الرحمن عن حلمه، وكان حي احمد عند عقلة تدعى أكفليت، نازلا على كثيبها الغربي، اما الشيخ محمد فكان على كثيبها الشرقي ولا يحول بينهما إلا عرض الغور.
فلما صار أحمد في سفح التل الشرقي، إذا بولد حبيب الرحمن وتلامذته يهبطون من التلة وهو يذكر الله ويرقص ويغني متواجدا، فلما اقترب منه ناداه:
ذاك ولد أحمذيه؟ حلمت البارحة أن آية(وأصحاب الشمال. .) سقطت من مصحفك، والله لن يكتبوا عليك إلحفظة شرا.
وانتهى اللقاء عند هذا الحد.
أخبرني شيخي كذلك انه كان يفسر القرآن اعتماد على بعض المفسرين، فحلم بأبيه الشيخ محمد ولد أحمذيه وجده من أمه الشيخ محمد ولد أغربظ، وانهما أوصياه معا في النوم أن يقلع عن تفسير القرآن الكريم حتى يعتمد الطبري. فقرر البحث عنه، ولم يكن موجودا حينها في البلاد، فسافر إلى الشيخ أحمد بمب وقضى وقتا في مسجده، وكان كلما سأله عن حاجته اجابه أن حاجته هي الحصول على تفسير الطبري، وكانت قد صدرت من طبعة حينها، وذات يوم ارسل مع أحد تلاميذه إ)لى شامي في داكار، وأعطاه أربع أواق لشراء الكتاب وكانت نسخه نادرة. اشترى الكتاب باوقيتين وخمس الأوقية، وعاد إلى انجارين، ورد للشيخ أحمد بمب أوقية وأربعة أخماس، فقال له الشيخ: هذه لخدمة الكتاب، وقد اشترى بها أحمد الورق الذي دون فيه نسخا من مراقي الأواه بعد ذلك، من بينها النسخة التي يسافر الآن من أجل إهدائها لعبد الله بن باب بن الشيخ سيدي.
نزلنا في بوتلميت عند الشيخ محمد عبد الله ولد أحمذيه، وكان حينها إمام المسجد الجامع الذي أقيم على أرض وهبها له رجل يدعى مياره، وكان حينها عريشا كبيرا. أما إقامة الشيخ فكانت في غرفة من الطين قرب المسجد.
حدث أحمد أخاه الشيخ محمد عبد الله، وكان احمد ينفر من مناداته بالشيخ أحمد، ويقول: الشيخ، هو الشيخ محمد عبد الله لا انا.
ومن ضمن ما حدثه به وأنا اسمع، انه أتى ليهدي إحدى النسخ الأولى من مراقي الأواه لعبد الله ولد باب.
وقد ارسل الشيخ محمد عبد الله بالخبر لعبد الله.
التحق بنا في مقامنا تلميذا الشيخ أحمد وهما المصطفى ولد الشيخ محمد ولد حبيب الرحمن، ومحمد ولدوابياه الحيبلاوي، ولم ينفطرا عن سؤال أستاذهما عن كل واردة وشاردة، وفي الصباح، بعد الإفطار لأول مرة في حياتي بالخبز الطازج الساخن، جاءنا فتيان حديثا السن وضيئا الوجهين هما هارون وسليمان ابني باب، وطلبا من الشيخين ان يصحباهما، وحملت انا الكتاب، وكان معنا طالبا الشيخ الذين أجازهما من قبل. ولما قدمنا على عبد الله في لحواش وجدناه في خيمة عظيمة من صوف الغنم و عنده خلق كثير من علية القوم وأهل الحاجات، وغيرهم، فخرج لنا مبادرا من مجلسه المهيب، واستقبل الشيخين وأجلس أحمد عن يمينه والشيخ محمد عبد الله عن يساره على فراش وثير.
بعد السلام والمفاكهة سلمت الكتاب لشيخي بعد ان طلبه مني، وكان في وعاء جلدي موشى، فمده لعبد الله، وحدثه عن موضوعه. فسأله عبد الله اربعة اسئلة (نسيت منهما أنا اثنين، مع ان سيدي ذكرها لي كلها).
السؤال الأول: ماذا قلت في تفسير (إياك نعبد)؟ اما السؤال الثاني فلا أتذكرهما كما أسلفت، وأما السؤال الرابع فهو: ماذا تقول بشأني أنا، والحال أنني اتعامل مع هؤلاء النصارى المتغلبين، لرعاية مصالح المسلمين، ودرء المفسدة عنهم؟
فأجابه الشيخ احمد ولد أحمذيه وقد تدفقت الدماء إلى وجهه، وأصبح كالأسد الهصور، وعيناه تشعان نورا:
لن اقول لك إلا ما قال لك ربك: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلناوقلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان امره فرطا.) ولم ينته حتي انهمرت دموعه وبكى بكاء شديدا، وبكى معه تلميذاه اولا ثم اغلب الحاضرين، ونهض ونهض معه المجلس وخرج مسرعا.
وكان عبد الله يلاحقه فلا يدركه، وقد امسك بيدي وقال لي: قل للشيخ محمد عبد الله إنني أطلب من الشيخ أحمد ان لايغادر بوتلميت قبل ان ألقاه..
وقد أبلغته بذلك.
وبعد يومين عدنا إلى الجودية بعد ان زار عبد الله أحمد في مكان إقامته واسبغ عليه من الإجلال والتقدير الكثير.
انتهت شهادة سيدي ولد احظانا، وكان أخذي لها منه في 5 فبراير سنة 2003 بقرية بولنوار الجنوبي.
رحم الله الجميع، فقد كانوا يجهدون انفسهم ويخلصون نيتهم في طلب العلم النافع وبثه من صغرهم إلى نهاية حياتهم، وكانوا اتقياء اعفاء في قولهم وفعلهم لا يخافون في الله لومة لائم. تقبل الله منا ومنهم صالح الاعمال.

رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين الدكتور محمد ولد احظانا

القسم: 

وكالة المنارة الإخبارية

على مدار الساعة