النقائض في الشعر الموريتاني /بقلم احمد سالم الفاغ عبد الله

أحد, 02/21/2021 - 21:45

النقائض في الشعر الموريتاني 

عرف الشعر العربي النقائض قديما إلا أنها لم تكن فنّاً مستقلاً إلا في العصر الأموي فكانت مجالا يتنافس فيه الشعراء ، حيثُ تعتبر إحدى فنون الأدب التي قامت بذاتها مع شعراء أمويين هم : الفرزدق وجرير والأخطل ، أما  في موريتانيا فقد اختلف النّقاد في بداية هذا الفن الأدبي كخلافهم في نشأة الشعر والنثر ، ولكنهم مُجمعون على أنَّ هذا الفن عرف ازدهاراً وتطوراً كبيرين في بدايات القرن الثامن عشر ، حيثُ طال الفقه واللغة .. وتناولته قرائح الشعراء والعلماء .. كل يستخدمه في تخصصه ويعبّر عن ذاته ويظهر فيه مهاراته ..  فكان له طابعه الموريتاني الصِّرف ، والنقائض  جمع " نقيضة"، من " نقَض" البناء إذا هدمَه، والحبلَ إذا حلّه، وضده "الإبرام" يكون للحبل والعهد، و "ناقضه" مناقضة خالفه، و "المناقضة " أن يتكلم بما هو ضد معناه، والمناقضة في الشعر أن ينقض الشاعرُ ما قاله الأول فيجيء بغير ما قاله.
وقد عُرف هذا الفنّ بأنه هو أن يتجه الشاعر بقصيدته إلى شاعر آخر، هاجياً أو مفتخراً .. فيعمد الآخر إلى الرد عليه بقصيدة هاجياً أو مُفاخراً .. ملتزماً الوزن العروضي والقافية والروي الذي اختاره الشاعر الأول، فيفسد على الأول معانيه، ويردها عليه، ويزيد عليها..
وقد تناول الشعراءُ الموريتانيون هذا الفنّ وأبدعوا فيه، حيثُ عرفت البلاد بعض النقائض الطويلة جدّاً مثل ما نشب بين محمذن ولد المختار الحسني الملقب "الذئب الكبير" ( تــ 1129 هـ )  والشاعر المصطفى ولد بو أحمد الملقب " بوفمين " (تـ  1170 هـ ) ، وقيل مع الذئب الأوسط المختار ولد المحمود، و من النقائض الطويلة كذلك نقائض محمد ولد أبنُ ولد أحميدًا الشقرويّ( 1315 - 1363 هـ)( 1897 - 1943 م) والمصباح ولد حبيب الله( 1367-1334هـ1947-1915م ) .. وقد قيل فيها شعراً رائقاً راقياً أنيقاً رصيناً ..

 ومن النقائض الرائقة القصيرة نقائض الشاعرين أحمد سالم ولد السالك ولد الإمام الحاجي ( - 1289 هـ) ( - 1872 م) وأحمد البكاي الكنتي ( 1282-1210هـ 1865-1795م ، فقال أحمدسالم ولد السالك قصيدته التي مطلعها : 

أرقـت لبـرْق العـارض المـتـهـلِّلِ 
                      عـيْـنـاكِ فـانـهـمـتـا بدَمْعٍ مُسْبِل

فردَّ عليه أحمد البكاي الكنتي بقصيدته التي مطلعها : 

طرقتْ نفيسةُ والدجى لم ينجلِ
                 وسنانَ من طول السُّرى في الهوجلِ

 ومن النقائض القصيرة  التي قيل فيها شعراً رائقا رصيناً نقائضُ محمدُّ ولد محمدي ولد سيدينا العلوي ( 1273-1243هـ 1856-1827م ) و سيد محمد " سيدْنَ " ولد الشيخ سيديا ولد المختار ولد الهيبة  ( 1832 - 1869م ) ، فقد أرسل له سيدنَ عندما  بلغه أن محمدُّ ولد محمدي لحّنه في جمع حَرْفٍ على حِرَفٍ ،  أبياتا مطلعُها :

يامُنكراً جمعنا حَرْفاً على حِرَفٍ  
                    لتَتَّئِد لاتكُـــن للمرتَمي هَـــــدَفا
إنكارُ من ليس يدري اشدُد به غَرراً
                 إِذْ هُوَ من جُرف الألحان فوقَ شفا

فردَّ عليه محمدُّ ولد محمدي بقصيدته التي مطلعها :

منِّي إلى ابنِ كمال الدِّين مَن خلَفَا  
                  بينَ الورى أحمدَ المُختارَ والخُلَفا
لا تَسْمعنْ ما وشَى بعضُ الوشاة به  
              واسمعْ مَقَالي فليسَ الأَمرُ ما وُصِفا

وإذا كان من شروط النقائض أن تكون هجاءً ظاهرا، فإنّ العلامتيْن الحسنييْن : محمد عبدالله بن أحمذية ( 1390-1292هـ 1970-1875م ) و محمد حامد بن آلا (1379-1288هـ 1959-1871م ) استطاعا أن يكسرا تلك القاعدة، فجاءت قصيدتاهما منسابتيْن محكمتيْن، تميزتا بعدم المباشرة وصل إلى حدّ الرمزية، والشعرية الطافحة، والحقول الدلالية التي تُخرج النص في بعض أبياته عن غرضه، ممّا أعطى القصيدتين قبولاً لدى الذائقة الموريتانية استدعى من بابه ولد الشيخ سيديا قوله : " لُكانت أطوالت ذي المشاعره يجبرُ أولاد أزوايه ش يوحلُ فيه " ، وقيل لغيره، وأعطاهما لقباً لدى المتلقين يُشعر بتفرّدهما وهو : " العاگرات " .
وقد أملت هذه القصائدَ وشاةٌ جاءت بين الشيخين ، فكانت البداية مع : العلامة : محمد عبدالله بن أحمذية :
 
مَغْنَى الرّباب مُربُّ جَوْنِ ربابِهِ
                    أودَى به من بَعْد بُعْد ربابِهِ
قضتِ الروائحُ والرياحُ رواحُها
                       وغدوُّها لجديده بذَهابِه
ولرسْمه صَرَفَ الزّمان بصرفه
                     نحو البِلَى بذهابه وإيَابِه
فتنكّرت أعلامُه وتَغيّرتْ
                منه الرُّبا من بَعد ما أربَى بِه
لا زال يألفُه الغَمامُ بمسْبلٍ
                   جَوْنِ الرّباب مُلثّه مربابِه
تبدو عقائقُه كأنّ وميضَها
             نَوْءُ المهيضِ ينوء في تَعْتابِه
إن يستحل مَغْنَى الرباب مؤالفًا
                   لظبائه ولِهُــوجه وسحابِه
فلكم سُقيتُ بربعه دهْرَ الصِّبا
              خمرَ الصّبا ورفلتُ في أثوابِه
أيام أهتصرُ الغصون من الهوَى
                 داني المقاطف جانيًا لِلُبابِه
أختالُ في حُلَلِ الشّباب مظاهرًا
                لبـــــرودِهِ وأجرُّ من أهدابه
ألهو بأترابٍ أوانسَ خُرَّدٍ
                وغطارفٍ من غيده وشبابِه
لا أختشي مَضَضَ الصّدود ولا النوى
            يرتاع رَوْعي من نَعيبِ غُرابِه
والوصلُ دان. والزمانُ مسالِمٌ
               مَــا إن يخالط عَذبُه بعَذابِه
تلكَ المنازلُ لا يماثلُها سِوى 
            قُرب الهُمام أخِ المَــقام النَّابِه
غَوثِ الأنام إذا الأنام أصابهم 
             عَــــضّ الزمان بظفره وبنابِه
من عمَّ وابلُ جوده كلَّ الورى 
               ممَّـــــن نآهُ ومَن أقام بِبابِه
من لا تزالُ يَمينُه كهفاً لدى 
               كـفِّ العِدا عمَّن أوى لجنابِه
أوراحة لغنَى العَديمِ متاحةٌ 
             مهما العديمُ آوى إلى أطنابِه 
ترِبَتْ إذا ترِب العفاةُ وأتربوا 
              مِـن فيْض يُمناه لدى إِتْرابِه
إنّ العفاةَ سُعاةُ ما في كفِّه 
                والآن حولٌ كامِلٌ لنِصَـــابِه
فلَو ابتغَى ممَّا حوتْه يمِينُه 
               وفـراً يدوم لكانَ من طِلاَبِه
هذا ومدحُك لا يفي قلمٌ به 
                يلقى مجاجته ببطنِ كتابِه
لا زلتَ مَنجًى للمُضاف ومَلجأ  
              للمعتفي ومَناخَ خوصِ رِكابِه
يا خيرَ مَن عسف العتاقُ به الملا 
             خوصاً ومن حطّ الرحالَ ببابِه 
ماكانَ ضرَّك لو ثنيتَ شبا الهِجا 
                 عَـنَّا إلى مَــن أمَّكم بسِبَابِه
إنا إذا أهدى الكريمُ لنا الثَّنا 
              خُضنا به في الشّعر لُجَّ عُبابِه
وإذا الكريمُ بسَبّه قد رامنا    
               فحلُــــومُنا فلاّلَة لذُبــــــــابِه
والبدءُ منّا إن رماه أخو الهِجا 
               بهِجاهُ كان الحــلْم ردّ جَـوابِه
فيصون منطقه البليغ عن الأذى  
              عنـــــــدَ الأذى ولعلَّه أدرى بِه
فالزمْ هجاءَك أوفدعْه فإنَّما 
               يغدو الهجا شؤماً على أرْبابِه 
ثمَّ الصلاةُ  مع السلا م لحِبِّه
                خــيْـــرِ الأنامِ وآله وصِحابِه

فردَّ عليه العلاّمةُ محمد حامد بن آلا :

رَبْعُ الربابِ بواسطِ الألْوَى بِهِ
                      آيٌ تكوَّن بعدما ألوَى بِه
آيٌ به نسخَ الهوى بقلوبنا
              وَحْيَ العذولِ بنُصحِه وعِتابِه
ربعٌ به صعُبَ الهوى من بعد ما
                 كانتْ ملاعبُه لروضِ صِعابِه
وبه الفتى شربَ الهوى من بَعد ما
          أمسى مَعينُ الوصْلِ فضْلَ شرابِه
خضْنا بها بحر الهوى وخَدَتْ بنا
                نُجُبُ المنى بهضابه وشِعابِه
بينا نخوضُ بحورَهُ بسباحةٍ
                 ونجــولُ بين رياضِه بِركابه
مترفِّهين على أرائك لهوِه
                 مُتغمِّدين من الصّبا بقِبـــابِه
إذْ بالنَّوى نَعَبَ الغرابُ وإن رَغَا
                    جمَلٌ أجاب رغاءَه بنُعابِه
جعلوا العِتاق على العتاق وخدَّروا
                 كلَّ الهوادجِ من عِتاقِ ثيابِه
فمضَوْا وغُودرَ في الديار أخو الهوى
                  حيرانَ مُشْتكيًا أليمَ مُصابِه
فدَعِ الصبابةَ والأسى أسفًا على
                 رَبْعٍ تَقـــــــادم عهدُه بشبابِه
واذكر قلادةَ جوهرٍ منظومةً
               من غوْصِ سيِّد عصرِه ولُبابِه
نظَّامِ جوهرةِ البديعِ يمدُّه
                بَحران يأخذُ كلَّ ما قذفا بِه
فسما وظاهَرَ في المكارم وارتدى
              في المجْدِ جِلْبابا على جِلْبابه
قاد الندى بعِنانه فذَهابُه
                     بِذهــــــابِه وإيابُه بإيابِه
حتى إذا استولى على شَأْوِ العلا
                وغدا مَناطُ النجم من أتْرابِه
كشف النِّقابَ عن المناقبِ فارتمتْ
            غُـــرُّ العجائبِ عند كشْفِ نِقابِه
ألقى عليَّ من المديح براقعًا
               مَـــتبوعةً بالسَّبِّ في أعقابِه
مَنٌّ تعقَّبَهُ الحسابُ وليْتَه
                مَنٌّ أتى بعد انقِضاءِ حِسابِه
وإذا رآه أخو اللُّواح لَظنَّه
                 مــــــاءً أراقَ شرابَه لِسَرابِه
ويكادُ يذهبُ بانبِعاثِ عِذابهِ
            في قلب سامعِه انتظارُ عَذابِه
لكنْ أذاه يسرُّني إذْ في الأذى
               قِدْمًا سرورُ المرْءِ من أحبابِه
أطرَى وأطنَبَ في امْتداحِ نَدِيِّهِ
              حِلْمًا وضمَّ الشعرَ في إطْنابِه
أنَّى؟ وتزكيَةُ الكريمِ لنفسِه
                   دلَّتْ مُطابقَةً على إغضابِه
أمّا التَّفاضُلُ في الدِّرايةِ ما ادَّعى
          مِنْ كَوْنِ ذاك الفضلِ في أحسابِه
فصوابُه لغوٌ لديَّ لعلَّهُ
                 خبرٌ أتى بالسَّلبِ معْ إيجابِه
يا راحمًا شكوَى الـمُضافِ بُعيْدَ ما
               جلَّتْ وضاقَ به الفضا برِحابِه
فجعلْتَ تُلزمني هِجاكَ مسبَّةً
                 كيْما يراكَ الخصمُ من أحزابِه
من غير نظمٍ سابقٍ من مُقْتضي
                     ذمٍّ ولا مَـــــدحٍ ولا مُتَشابِه
أحسنتَ حِلْمكَ بالخطابِ وإنَّما
                 حِلمُ الفتى بالصمْتِ لا بخطابِه
ألزمتُمُ صَوْغَ الهجاءِ لمن يرى
                صوْغَ الهِجا أقصَى مراتبِ عابِه
لكنْ يُرَى بالطبع دون تطبُّعٍ
                     خُلُقُ الحلــيم بفعلِه وجوابِه
هذا وجارحةُ الأديب مصونةٌ
                        عمَّا يفيدُ النَّقصَ في آدابِه
والنُّطقُ أشأَمُ ما يسودُ به الفتى
                    والصمتُ أكْيَسُ للفتى بقِرابِه
وصلاة ربي دائمًا تتْرَى على
                     خـــيْــر الأنام وآله وصِحابِه

                             تحــيــاتي

القسم: 

وكالة المنارة الإخبارية

على مدار الساعة