أيهما الباكي؛ الشاعر أم الحمام؟الدكتورة باته بنت البراء

اثنين, 07/22/2019 - 11:11

( من كتابي: مساحة للقراءة )

للمحيط الطبيعي حضور بارز في مدونة الشعر العربي، ونجد ذلك في تلك الصلات الوثيقة التي يعقدها الشاعر مع هذا المحيط، بكل مكوناته الجامدة والحية: صحاريَ وأشجارا، ورياحا وأمطارا ، وحيوانات أليفة ومتوحشة، وطيورا كاسرة ومهادنة.

ويبدو أن طائر الحمام حظي دون غيره، بكثرة وروده على ألسنة الشعراء، وبإشراكهم له في حالاتهم النفسية المتعاقبة، فقد وجدوا فيه أنيسا يقاسمهم آلامهم وأفراحهم، وشريكا يستجيب لنداءاتهم، ويتفهم لغتهم، كما اتخذوا منه أحيانا رسولا يحمل بريد الشوق إلى أحبتهم.

ولنا أن نتساءل ما سر ذلك الانسجام الحميم بين الشاعر العربي والحمام؟ ولماذا ظل موقفه منه إيجابيا دوما، على عكس غيره من الطيور الأخرى، التي كان الشاعر ينفر منها ويتشاءم بها؛ كالغربان والبوم، أو كان يرهبها ويراها مثالا للقوة والبطش؛ كالعقبان والنسور.

إن إيثار الشاعر للحمام، قد يكون راجعا إلى وداعة هذا الطائر وجمال شكله من جهة، ولكنه من جهة أخرى قد تكون له جذوره الميثولوجية الضاربة في عمق الثقافة العربية، والتي جعلت الإنسان يتفاءل ببعض الكائنات ويرتاح إليها، في حين ينفر من بعضها الآخر ويناصبه العداء.
ويمكن أن نتبين هذه الجذور الميثيولوجية لجنس الحمام في القصص الخرافي العربي الذي نسجه الرواة حول هذا الطائر، وما ارتبط به من أساطير، وما حمله من رمزية أخلاقية، وسنكتفي بعرض نموذجين من هذه الخرافات: 
تقول الحكاية إن نوحا عليه السلام ، لما أراد أن ترسو السفينة بركابها على الجودي؛ أرسل الغراب ليستطلع له حالة الأرض بعد الطوفان ، ولكن الغراب الجائع انشغل بأكل الجيف المتناثرة هنا وهناك ، ونسي المهمة الموكلة إليه، فلما استبطأه نبي الله ، أرسل الحمامة، فطالعت المكان، ولم تلبث إلا يسيرا، ورجعت وقدماها ملطختان بالطين. وهكذا بشرت أهل السفينة بأن الأرض قد امتصت ماءها، وغارت مياهها، فباركها نوح عليه السلام، ومسح على رقبتها، فصارت لها قلادة كالطوق، ومن حينها أصبحت الحمامة رمزا للرسول الأمين والوفي، ولعل رمزية الحمام بكونه عنوانا للسلام، موجودة في أغلب الثقافات لدى الشعوب.

كذلك تذكر الأسطورة العربية أن هديل الحمام الذي يطلقه مترنما، ليس شدوا، وإنما بكاء على فرخه المسمى: "هديل"، والذي فقده منذ قديم الزمان، وظل يبكيه وينتظر عودته، حتى ضربت العرب المثل بذلك في استحالة حدوث الشيء، فقالوا: "لا يكون ذلك حتى يعود الهديل".
إن هذه الحكايات الأسطورية التي ظل صداها مترددا في الذاكرة العربية، قد استثمرها الشاعر العربي في عقد تلك الصلات الوثيقة بينه مع هذا الطائر الوديع.

فهذه القيمة الرمزية التي اكتسبتها الحمام في الذاكرة العربية، أسست لحضوره القوي في الشعر؛ فظل الشاعر دوما يرى فيه أَوْفَى مُعين أوقات الضيق، وخيرَ سمير في حالات القلق واليأس، التي تنتابه كلما طرقه هم، أو حل به حادث، فلا يجد من يبثه شجونه خيرا من الحمام.

وهكذا جعل الشاعر الحمام يتقمص كل الحالات النفسية التي تعتريه، كما جعله يعبر عن شجونه وأحاسيسه؛ فيبكي لبكائه، ويسهر لسهره. إنها مشاركة وجدانية عميقة تكشفها لنا مدونة الشعر العربي، وقل أن نجد لها مثيلا في الشعر العالمي.

ترتحل عبلة محبوبة عنترة عن مرابعها، ويذهب بها أهلها بعيدا إلى أرض الحجاز، ليبتعدوا بها عن الشاعر الأسود الذي تغزل بها، وخرج على نواميس العشيرة في حبه لها، وهو من ليس لها بكفء؛ فيستبد الحزن بالشاعر، ويمشي هائما على وجهه يبحث عمن يفضي إليه ويشاركه حالته، وحين يرى طائر البان (الحمام)، يفتح له قلبه، ويبثه كل مواجده:

يَا طَائِـرَ الْـبَـانِ قَـدْ هَـيَّـجْـتَ أشْـجَـانِي ** وَزِدْتَـنِـي طَــرَباً يَـا طَائِــرَ الْـبَــــانِ 
إِنْ كُـنْــتَ تَـنْـدُبُ إلْـفـاً قَـدْ فُـجِعْـتَ بهِ ** فَـقَـدْ شَجَاكَ الَّـذِي بِالْـبَـيْــنِ أَشْجَـانِي

ويسترسل الشاعر في الإفصاح للطائر عما يدور بنفسه؛ فيلتمس منه أن يزيد في البكاء، وأن لا يتعجل في الذهاب عنه حتى يكون شاهدا على معاناته، وما يكابده من ألم الفراق. لقد أصبح الطائر والإنسان في لحظة شعرية إلفين حميمين؛ يجمعهما أكثر من قاسم مشترك:
زِدْنِي مِنَ النَّوْحِ وَاسْعِـدْنِي عَلَى حَزَنِي ** حَـتَّى تَـرَى عَجَباً مِنْ فَـيْـضِ أَجْفَانِي 
وَقِـفْ لِـتَـنْـظُرَ مَا بِي لَا تَكُـنْ عَـجِـــلاً ** وَاحْـذَرْ لِنَفْـسِـكَ مِنْ أَنْـفَـاسِ نِـيـرَانِي

ولا يكتفي الشاعر بأن يشاركه الحمام لحظته الحزينة، وإنما يدعوه لخطوة أهم، وهي أن يكون هذا الطائر القادر على قطع المسافات الشاسعة ، رسوله إلى حبيبته عبلة ، التي غادرت تحت جنح الليل دون أن تودعه؛ وأن يخبرها بأن حبيبها قد مات، فربما يكون ذلك سببا في رجوع أهلها بها إلى الديار:

وَطِـرْ لَعَـلَّـكَ فِي أَرْضِ الْحِجَـازِ تَـرَى ** رَكْـباً عَـلَى عَـالِــجٍ، أوْ دُونَ نُعْـمَـانِ يَـسْـــرِي بِجَـارِيَــة ٍ تَـنْهَـلُّ أدْمُــعُـهَـا ** شَــوْقـاً إلَى وَطَــنٍ نَاءٍ، وَجِــيـــــرَانِ 
نَـاشَدْتُــكَ اللَّـهَ يَـا طَـيْـرَ الْحَـمَـامِ إذا ** رَأَيْـتَ يَـوْماً حُـمُــولَ القوْمِ فَانْـعَـانِي

وكما رأينا فإن الأبيات تنتهي بلحظة ادرامية موجعة، كان الشاهد المؤتمن عليها هو طائر الحمام .
ومهما غنى الحمام، فإن الشاعر ما إن ينفث كلماته السحرية حتى يحيل غناءه نوحا وبكاء، ليشاطره همومه الكثيرة ، ويجعله يعيش حالته النفسية؛ إنها دوما أنانية الشاعر، ومحاولته بسط سلطانه على الكائنات من حوله.

فالشاعر أبو فراس الحمداني، وهو أسير في بلاد الروم، يجد نفسه منفيا، وقد تخلى عنه ابن عمه سيف الدولة، ونسيه أهله الأقربون، فلا يجد من يشاركه آلام السجن والغربة والأسر غير جارته؛ تلك الحمامة الوادعة التي تتغنى مبتهجة بالصباح الجميل؛ فيجعل منها الشاعر شريكه في المأساة، ويلبسها ثوب الحزن ليجعلها تنوح 
لا تتغنى:

أَقُـولُ وَقَـدْ نَاحَـتْ بِـقُـرْبِي حَمَامَـةٌ ** أيَـا جَارَتَا هَـلْ تَـشْـعُـرِيـنَ بِحَالِي
أيَا جَـارَتَـا مَا أَنْصَفَ الدَّهْـرُ بَيْنَنَا ** تَعَالَيْ أُقَـاسِمْـكِ الْهُـمُـومَ تَعَـالِــي

إن الفارس الأسير يجد في الحمامة التي تتغني قربه، شريكا يطارحه الهم ، فيجعلها تنوح ، لا تتغنى، لأنه وهو الفارس الشجاع ، لا يريد أن يضعف أمام العدو، ولا تسمح له كبرياؤه بأن يلامس الدمع عينيه ، لذلك يتخذ من الحمامة قناعا يتحدث من خلاله، ويلبسه حالته وحزنه. 
إن الألفة بين الشاعر والحمام تجاوزت لدى بعض الشعراء حد التعاطف، والإشراك في الحالة النفسية، وأصبحت نوعا من اتحاد المشاعر يتجاوز اختلاف الجنس، واختلاف اللغة؛ إنه أشبه ما يكون باتحاد وجودي عميق تمحي فيه الفوارق، وتغيب الحدود:

يقول الشاعـر أبو بكر الشبلي :

رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ فِي الضُّحَى ** ذَاتِ شجْـوٍ صَـدَحَـتْ فِي فَـنَـنِ 
ذَكَــرَتْ إِلْـفـاً وَدَهْــراً سَـالِـفــاً ** فَـبَكَـتْ حُـزْناً، فَـهَاجَـتْ حَـزَنِي

فالحمامة هنا هي من يثير ذكريات الشاعر، فيستجيب لها بدوره، ويتأثر بحالتها فيتقاسمان الوجع والسهر:

فَـــبُــكَـائِي رُبَّـــمَــا أَرَّقَـهَـــا ** وَبُـكَــاهَــا رُبَّـــمَــــا أرَّقَــــنِي وَلَـقَـدْ تَـشْكُـو فَـمَا أَفْـهَـمُهَـــا ** وّلَـقَـدْ أَشْـكُــو فَـمَـا تَـفْـهًـمُـنِي 
غَـيْـرَ أَنِّي بِالشَّـجَـا أَعْـرِفُـهَا ** وَهْيَ أَيْضاً بِالشَّجَـا تَعْـرِفُـنِـي

لقد فطن الشاعر في آخر الأبيات إلى أنه ذهب في الخيال بعيدا، حين جعل كائنا لا يعقل يسهر تجاوبا معه، ولكنه يخترع تعليلا ذكيا حين يقول: بأنهما وإن كان كلاهما يجهل لغة الآخر، فإنهما يتقاسمان لغة المشاعر، وتلك لا شك هي أبلغ لغة وأصدقها.

أما الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، فإنه يخرق القاعدة التي ألفناها لدى الشعراء السابقين، إن حمامه لا يبكي ، وإنما يغني، تماما كصاحبه الذي يتغنى بمباهج الحياة، ينزل ابن خفاجة –وهو المولع بالطبيعة – تحت ظل سرحة، فيستهويه المنظر؛ خضرة وارفة، وأغصان يانعة، تلاعب النسيم، وحمائم جذلى تغني وتهزج طربا :

سُقْـياً لِيَـــوْمٍ قَـدْ أَنَخْـتُ بِسَـــــــــرْحَةٍ ** رَيَّا تُلَاعِبُــــهَا الرِّيَّـــــــــــاحُ فَتَلْعَبُ
سَـكْـرَى يُغَنّيـــهَا الْحَمَامُ فَتَنْـــــــثَنِي ** طَرَبًا وَيَسْقــِيـهَا الْغَمَامُ فَـتَـشْـــــرَبُ

ويتذكر ابن سعيد المغربي أيامه الجميلة بحمص؛ فيقدم لوحة بهية لتلك الطبيعة الساحرة، التي عاش فيها منعما بين خرير المياه، وشدو الحمام، وصليل الحصى:

أيْـنَ حِمْصٌ؟ أَيْنَ أَيَّامِي بِهَا؟ ** بَعْـدَهَا لَمْ ألْـقَ شَـيْـئًا يُعْجِـبُ
كَمْ تَقَضَّى لِي بِهَــا منْ لَـذَّةٍ ** حَيْثُ لِلنَّهْـرِ خًـرِيـــرٌ مُطْرِبُ 
وَحَمَامُ الْأيْكِ تَشْـــدُو حَوْلَنَا ** وَالْمَثَانِي فِي ذُرَاهَا تَصْخَبُ

لكن أجمل تعليل وتحليل للعلاقة بين الشاعر والحمام هي تلك التي أبان عنها الشاعر الموريتاني محمد بن أحمد يوره فحدد أسباب الألفة المكينة بين جنس الطير وجنس البشر، وجعل من البكاء غناء؛ محيلا بذلك إلى التحول والتناوب بين الحالتين في تصور الشعراء، أن ما يجمع بين الاثنين: (الشاعر- الحمام)؛ شجن واحدٌ، وهَـمٌّ وُجُـودِيٌّ لا يَريمُ:

بُكاءُ حَماماتٍ تغنينَ بالأمسِ ** يَـرُدُّ قُـلوبَ الْمُـرْعَــوِيــنَ إِلى الـدِّكْــس
بَـكَـيْـنَ لأَيَّـامٍ بَكَـيْـتُ لمثـلِهـا ** فأصحنَ مِنْ جِنسي، وما هنَّ منْ جنسي
يُذَكِّرْنَنِي عَهْدًا قديما ومعهدًا ** أَحَـبُّ إلى نَـفْـسِـي لَـيَـالِـيـهِ مِـنْ نَـفْـسِي

إن النماذج الشعرية السابقة تؤكد لنا أن الشاعر دوما ظل حريصا على إشراك عناصر الطبيعة من حوله في حالته النفسية، ولم يكن أبدا محايدا، بل كان مستبدا، فحين يحزن لفراق من يحب، أو يقع في ورطة، أو هم ، فإن الدنيا من حوله يجللها السواد، وتنقلب الحالات إلى أضدادها؛ فيكون الغناء بكاء، والفرح حزنا، لذلك يجعل الحمائم تبكي وتشاركه حالته الوجدانية، أما حين يفرح الشاعر- وقلما يفرح- فإنه ساعتها يكون في حالة انسجام وتصالح مع الكائنات من حوله، فنجد الحمام يغني ويشدو، والأشجار تتمايل طرابا. 
إن الشاعر دوما يحاول أن يبسط سلطان ذاته على الكائنات من حوله لتعيش معه نفس اللحظة التي يعيشها، وليعمم حالته الوجدانية بإشراك الكائنات من حوله فيها.
وعموما فإن تجربة الشاعر مع الحمام هي تجربة وجودية عميقة، تذوب فيها الفوارق بين الإنسان والطير، وتضيق المسافة بين الواقع والخيال، وتتحد اللغة والوجدان؛ مما يجعلنا نطرح تساؤلا مشروعا: من الباكي، هل هو الشاعر أم الحمام؟

القسم: 

وكالة المنارة الإخبارية

على مدار الساعة